القدس في الأجندة السياسية للأثرياء النافذين بالولايات المتحدة

الجزيرة- 14/2/2018

لم يحِدْ اعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترمب بالقدس عاصمة لإسرائيل كثيرا عن السياسة الخارجية الأميركية كما تعتقد الأغلبية من العموم. كغيره من الرؤساء الأميركيين السابقين، تأثر ترمب بالاعتبارات السياسية الداخلية، وفرصه غير المؤكدة حتى الآن لإعادة انتخابه عام 2020. ولكن في العموم، يعكس اعتراف ترمب بالقدس عاصمة لإسرائيل الإجماع الحزبي في الولايات المتحدة الأميركية تجاه الاحتلال الإسرائيلي المستمر للأرض الفلسطينية.

يشكل المال السياسي عاملا مهما في الانتخابات الأميركية بحيث تتطلب الدورات الانتخابية التي تعقد كل سنتين وأربع سنوات تمويلا ضخما وعملية شبه مستمرة لجمع التبرعات السياسية التي يقوم بها المرشحون والأحزاب السياسية المختلفة.

ساهمت متطلبات التمويل الانتخابي في تعظيم نفوذ جهات مانحة وبارزة مثل الملياردير وقطب الإعلام حاييم صبان والملياردير وقطب الكازينوهات شيلدون أديلسون، وفي تأثيرهم الكبير على قضايا السياسات، بما في ذلك تجاه إسرائيل والفلسطينيين.

دعم إسرائيل   
وعلى الرغم من أهمية المساهمات السياسية، فإنها في الغالب تعكس الانحياز الأميركي تجاه إسرائيل، والجهات المانحة التي تميل بالعادة إلى دعم المرشحين الذين يشاركونهم وجهات نظرهم السياسية. هذه العوامل مجتمعة ستحضر مجددا في انتخابات الكونغرس الأميركي أواخر هذا العام.

قال حاييم صبان في مقابلة أجريت معه عام 2010 إن “الطرق الثلاث المؤثرة في السياسة الأميركية” هي التبرع للأحزاب السياسية، وإنشاء مراكز البحث والفكر، والتحكم بوسائل الإعلام. وأوضح صبان اهتمامه بالسياسة والسياسة الخارجية بقوله “أنا رجل لدي قضية واحدة، وقضيتي هي إسرائيل”.

صبان، المولود في مصر، ليس الداعم الوحيد لإسرائيل الذي يتبع هذا النهج. فبينما دعم صبان عموما الحزب الديمقراطي، ولا سيما بيل وهيلاري كلينتون، يعدّ شيلدون أديلسون من الداعمين النافذين للحزب الجمهوري. وعلى الرغم من أن هذين المليارديرين يتبنيان في الظاهر موقفين متنافرين في الطيف السياسي الأميركي، فإنهما يعتمدان نهجين متشابهين في دعمهما لإسرائيل.

تبرّع أديلسون في العقد الماضي بمبالغ طائلة لمرشحي الحزب الجمهوري. وساهم عام 2008 في تأسيس لجنة “مراقبة الحريات” (Freedom Watch)، وهي من لجان العمل السياسية (Political Action Committee -PAC) التي تنضوي تحت مسمى “السوبر باكس” أو “لجان السوبر” (Super- PACs). تتمتع لجان العمل السياسي في الولايات المتحدة “السوبر باكس” بقدرتها على تلقي أموال غير محدودة من الأفراد أو النقابات أو الشركات.

ووفقا للقانون الأميركي يفترض في لجان العمل السياسي الإفصاح عن التبرعات التي تتلقاها وتنفقها، ولا يسمح لها بتقديم مساهمات مباشرة إلى المرشحين الأفراد أو التنسيق مع المرشحين. غير أن رقابة الجهات الحكومية المختصة على طرق الإنفاق متفاوتة ومتراخية نسبيا، وفي الغالب فإن الغرامات التي تفرض على المنتهكين للقانون رمزية ولا تكاد تذكر.

أموال طائلة    
ضمت قيادة لجنة “مراقبة الحريات” أعضاء سابقين في إدارة جورج بوش الابن. وقد أنفق أديلسون في انتخابات عام 2008 ما يقارب 30 مليون دولار، إلا أن تلك الأموال ذهبت أدراج الرياح إثر تحقيق الحزب الديمقراطي نصرا مؤزرا في الانتخابات الرئاسية وانتخابات الكونغرس. وعلى أثر تلك الخسارة تم حل لجنة “مراقبة الحريات”.

بعد أربع سنوات على تلك الخسارة، تعهّد أديلسون بإنفاق 100 مليون دولار لهزيمة باراك أوباما، ودعم تطلعات نيوت غينغريتش لتولي منصب الرئاسة. شغل غينغريتش سابقا منصب رئيس مجلس النواب الأميركي بين عامي 1995 و1999، وكان شخصية قيادية في الجناح اليميني الجمهوري ومعارضا شرسا للرئيس الأسبق بيل كلينتون.

في ديسمبر/كانون الأول 2011، أي بعد سبعة أشهر من إعلان ترشحه لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية، أجرت قناة تلفزيونية يهودية مقابلة مع غينغريتش، قال فيها “أعتقد أن الشعب الفلسطيني شعبٌ مختلق، فهم في الواقع عرب كانوا على مر التاريخ جزءا من المجتمع العربي”. وأضاف أن الفلسطينيين حظوا “بفرصة ليذهبوا إلى العديد من البلدان، ولأسباب سياسية متعددة ساهمنا في استدامة هذه الحرب ضد إسرائيل منذ الأربعينيات وحتى الآن، وهذا محزن للغاية”. غير أن غينغريتش خسر بطاقة الترشح عن الحزب الجمهوري لصالح ميت رومني حتى بعد أن أنفق أديلسون 15 مليون دولار على حملته الانتخابية.

استفاد رومني أيضا باعتباره المرشح الرئاسي للحزب الجمهوري من سخاء أديلسون بحيث تلقى أيضا منه -بحسب التقارير- 20 مليون دولار دعما لحملته. بعد حصول رومني على بطاقة الترشح عن الحزب الجمهوري، شدّ الرِحال إلى إسرائيل في يوليو/تموز 2012، وجاور أديلسون في حفل عشاء أقيم لجمع التبرعات في القدس. تجاهل رومني في كلمته على العشاء الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية وآثاره على المجتمع الفلسطيني واقتصاده. كما ادعى أن حيوية الاقتصاد الإسرائيلي، ولا سيما عند مقارنته باقتصاد السلطة الفلسطينية، تعزى إلى جملة أسباب منها تفوق إسرائيل الثقافي على الفلسطينيين.

تبرعات مباشرة 
ساهم أديلسون، بالإضافة إلى هذه التبرعات المباشرة لمرشحين محددين، بما لا يقل عن 45 مليون دولار للجان العمل السياسي التابعة للحزب الجمهوري. ومن المتعارف عليه في الأوساط العامة أن تبرعات أديلسون لدعم مرشحي الحزب الجمهوري في العام 2012 بلغت 150 مليون دولار. إلا أن مراهنات أديلسون الخاسرة لدعم غينغريتش ورومني لم تحقق النتيجة المرجوة. إذ أعيد انتخاب أوباما في تلك الفترة، في حين حصد الديمقراطيون مقاعد إضافية في الكونغرس.

يتيح النظام الانتخابي في الولايات المتحدة أيضا للأفراد أن يتبرعوا لمنظمات غير مطالبة، وفقا لهذا النظام، بإبلاغ الحكومة الأميركية بأسماء المانحين. وقد باتت هذه التبرعات تعرف باسم “المال الأسود” (Dark Money)، وقد زادت قيمة هذا النوع من التبرعات زيادة مطردة في السنوات الثماني الماضية. ومن المستبعد جدا عدم مساهمة المانحين الرئيسيين مثل أديلسون في دعم مجموعات المال الأسود. في الواقع، فإن مساهماته الإجمالية أكبر بكثير مما تم الإفصاح عنه للحكومة الأميركية.

لم يدعم أديلسون علنا وبشدة أي مرشح في انتخابات 2016 بعد مراهناته الخاسرة على المرشحيْن الجمهورييْن غينغريتش ورومني عامي 2008 و2012، وبعد التبرع بما لا يقل عن 25 مليون دولار للمجموعات السياسية المعارضة لمرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون. ولكن بعد تنصيب المرشح الجمهوري دونالد ترمب رئيسا للولايات المتحدة الأميركية، ظل أديلسون على اتصال دائم بإدارته، واعتبر نقل السفارة الأميركية إلى القدس من الأولويات.

تبرع انتقائي
في المقابل، تبرع حاييم صبان بمبالغ كبيرة للحزب الديمقراطي، لكنه كان أكثر انتقائية من أديلسون في اختيار مرشحيه. تبرع صبان في العام 2008 بمبلغ 10 ملايين دولار، بحسب التقارير، لحملة هيلاري كلينتون الفاشلة. وفي العام 2012 تبرّع بـ1.3 مليون دولار فقط، وأنفق معظمها على انتخابات مجلس النواب ومجلس الشيوخ. وبعد أربع سنوات، تبرّع صبّان في العام 2016 بما لا يقل عن 16 مليون دولار للحزب الديمقراطي وحملة كلينتون الانتخابية التي فشلت مجددا.

لا تحكي التبرعات الانتخابية سوى جانب واحد من القصة. فبالإضافة إلى التبرعات السياسية، بسط أديلسون نفوذه في الولايات المتحدة وإسرائيل، وعزز العلاقات بين البلدين. فقد كان داعما نشطا للجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (آيباك) المناصرة لإسرائيل.

وبينما تبرع صبان بمبلغ 7 ملايين دولار لتشييد المقر الجديد “للجنة الوطنية الديمقراطية” التابعة للحزب الديمقراطي، ساهم أديلسون في تأسيس مكتب آيباك الجديد في واشنطن العاصمة. كما ساهم أديلسون أيضا في تمويل جولات للمشرِّعين الجمهوريين في إسرائيل برعاية من منظمة آيباك.

ويعتبر أديلسون من الممولين الرئيسيين لمنظمة “حق الأبناء في إسرائيل” (Birthright-Israel) التي تمنح الشباب اليهود الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و26 عاما رحلات مجانية لإسرائيل، وهو أيضا من كبار الداعمين للمستوطنات الإسرائيلية. ولكن بعد التأييد الذي أبدته إيباك لزيادة المساعدات الأميركية المقدمة للسلطة الفلسطينية، توقف أديلسون عن دعم آيباك.

بالإضافة إلى ذلك، يعد أديلسون من المؤيدين الرئيسيين للمنظمة المسيحية الإيفانجليكية “المسيحيون المتحدون من أجل إسرائيل” بقيادة القس جون هاجي. وتعد منظمة “المسيحيون المتحدون من أجل إسرائيل” من أكثر المنظمات الداعمة لاعتراف واشنطن بالقدس عاصمة لإسرائيل والتي رحبت بقرار ترمب بشأن القدس.

يستثمر أيضا صبان وأديلسون في وسائل الإعلام. يتبوأ صبان مركز رئيس شبكة “يونيفيجن” (Univision)، وهو أيضا أحد مالكيها، وهي شبكة تلفزيونية ناطقة بالإسبانية ومقرها الولايات المتحدة. تتمتع شبكة يونيفيجن بنسبة مشاهدة عالية، وقد انتقدتها حملة ترمب الانتخابية إبان انتخابات 2016 على خلفية تغطيتها وانحيازها الواضح لهيلاري كلينتون.

وعلى النقيض، ركز أديلسون على وسائل الإعلام المطبوعة، وأطلق في العام 2007 صحيفة “إسرائيل اليوم” اليومية المجانية الوثيقة الصلة برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وبعد ثماني سنوات، اشترى أديلسون صحيفة “لاس فيغاس ريفيو جورنال”، التي كانت صحيفة المدينة الرائدة والتي كثيرا ما انتقدت أديلسون في تغطيتها في السابق قبل ملكيته لها. وعلى أثر تملكه للصحيفة استقال عددٌ من الصحفيين والمحررين منها.

ساحة الفكر
مراكز البحث والفكر هي ساحة رئيسية أخرى ينشط فيها صبان وأديلسون. فبعد فشل قمة كامب ديفد في العام 2000، وفي خضم الانتفاضة الفلسطينية الثانية، قرر صبان إنشاء مركز بحثي فكري يركز على الشرق الأوسط وتأمين مستقبل إسرائيل. وقد تبرّع بمبلغ 13 مليون دولار لمؤسسة “بروكينغز” (
Brookings Institution)، لتأسيس “مركز صبان لسياسة الشرق الأوسط”  (Saban Center for Middle East Policy).

ورغم أن مؤسسة بروكينغز تعدّ عموما مؤسسة بحثية وفكرية معتدلة تربطها علاقات بالحزب الديمقراطي، فإن الباحثين المنتمين إلى مركز صبان دعوا علنا إلى غزو العراق واحتلاله عام 2003. وما انفك المركز يدعو بشكل متزايد إلى إدارة النزاع الناشئ عن الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية، وليس إلى إيجاد تسوية وحل له.

يستضيف صبان محفلا سنويا في مؤسسة بروكينغز، وقد استضاف قبل إعلان ترمب بشأن القدس صهر الرئيس ترمب ومستشاره جاريد كوشنر، الذي تدير أسرته مؤسسة “كوشنر الخيرية” (the Kushner Companies Charitable Foundation)، والتي تبرعت بأموال طائلة لمستوطنة “بيت إيل” المقامة قرب رام الله على أرض فلسطينية خاصة استولت عليها إسرائيل.

تتلقى مستوطنة بيت إيل أيضا دعما من أميركيين أثرياء آخرين عبر منظمة تدعى “أصدقاء مؤسسات بيت إيل الأميركيون” (American Friends of Bet El Institutions).  وفي الواقع، شغل السفير الأميركي الحالي في إسرائيل ومحامي ترمب السابق ديفد فريدمان منصب رئيس هذه المنظمة في الماضي.

رغم أن صبان أعلن في السابق تأييده لحل الدولتين وتقسيم القدس في إطار اتفاق نهائي مع الفلسطينيين، فإنه لم ينتقد دعم كوشنر للمستوطنات. عوضا عن ذلك، شكر صبان كوشنر على جهوده التي بذلها أواخر 2016 لإحباط صدور قرار في مجلس الأمن الدولي ينتقد المستوطنات الإسرائيلية، لاقى دعما حينها من إدارة أوباما وقبل تنصيب ترمب رئيسا في البيت الأبيض. حتى إن صبان لم ينتقد قرار ترمب بشأن القدس.

مثلما حظي إعلان ترمب بتأييد الحزبين، بمن فيهم زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ السيناتور الديمقراطي تشارلز شومر، فإن صمت صبان يؤشر على دعمه لقرار ترمب. لذا حتى لو خسر ترمب في انتخابات 2020، فإن من المستبعد أن يتراجع أيٌّ من منافسيه الديمقراطيين المحتملين عن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.

وعلى غرار صبان، أنشأ أديلسون مركزا بحثيا وفكريا باسم “معهد أديلسون للدراسات الإستراتيجية” (The Adelson Institute for Strategic Studies) عام 2006 بعد أن تبرّع بمبلغ 4.5 ملايين دولار لـ”مركز شاليم في القدس”(Shalem Center in Jerusalem) المحسوب على المحافظين الجدد.

وقد استضاف المعهد في مؤتمر نظّمه عام 2007 شخصيات معارضة بارزة من الشتات الإيراني. وحضر الفعالية أديلسون شخصيا، واستنكر موقف على كلّ من لم يحبذ مهاجمة إيران. وقال، بحسب التقارير، “أنا حقا لا أبالي بما يحدث لإيران. ما يهمني هو إسرائيل”.

محاربة المقاطعة
يتفق صبان وأديلسون على ضرورة إيقاف حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، حيث وضعا خلافاتهما الحزبية جانبا عام 2015 وتضافرا في الجهد والمال لمجابهة حركة المقاطعة، كما استضاف صبان اجتماعا خاصا في مركز صبان لمواجهة حركة المقاطعة. غير أن التقارير الإعلامية الأخيرة تشير إلى أن الشراكة المناوِئة لحركة المقاطعة بين صبان وأديلسون قد انهارت، وأنهما توقفا عن تنسيق جهودهما في هذا الصدد.

تعدّ انتخابات التجديد النصفي الأخير الأخيرة التي عقدت ام 2014 الأغلى في التاريخ الأميركي. ووفقا لـ”مركز السياسات المتجاوبة” (Center for Responsive Politics)، جاءت التبرعات من جهات مانحة أقل عددا ولكنه أضخم تمويل بالمقارنة بالانتخابات السابقة.

وبعد أربع سنوات، ستكون المنافسة في انتخابات التجديد النصفي هذا العام في شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل محتدمة جدا، وسيحتاج الحزبان مبالغ مالية كبرى. وحتما سيزيد هذا من تأثير المانحين الرئيسيين مثل صبان وأديلسون في الأحزاب السياسية، وسينعكس ذلك على سياسات واشنطن تجاه الفلسطينيين خصوصا والشرق الأوسط عموما.