الجزيرة- أسيل جندي- القدس- 16/4/2018
مهما طال مكوث المواطن أو السائح في مدينة القدس فلن تنتهي دهشته وانبهاره مع استمرار اكتشافه لأماكن أثرية جديدة تروي حكايات أمم مرت على هذه المدينة العريقة، تحتضن آثارها البلدة القديمة فوق الأرض وتحتها، تُبحر بزائرها إلى عالم من العجائب.
“بئر الملكة هيلانة” إحدى الظواهر الطبيعية الأثرية في القدس القديمة، وتقع في باطن الأرض أسفل بطريركية الأقباط الأرثوذكس.
عند بلوغ المرحلة التاسعة من مراحل درب الآلام وفي المكان الذي سقط به المسيح عليه السلام على الأرض وهو يحمل الصليب للمرة الثالثة قبيل دخوله كنيسة القيامة حسب المعتقد المسيحي، يقف السياح طويلا لأداء تراتيل دينية وهم يحملون الصليب، ثم يكملون مسيرة الآلام باتجاه الكنيسة، لكن منهم من يدخل “كنيسة الملكة هيلانة” الواقعة على يمينهم ويندهش لوجود سلالم ضيقة جدا تؤدي إلى بئر كبيرة تجتمع فيها مياه الأمطار منذ قرون طويلة.
ترتبط هذه البئر بالملكة هيلانة التي ولدت لأبوين مسيحيين عام 247 ميلادية، وكان لها تأثير خاص في اعتناق ابنها الإمبراطور قسطنطين الكبير للديانة المسيحية، وفي جعل الإمبراطورية الرومانية تعتنقها أيضا.
حكايات قرون خلت
قدِمت الملكة في فترة حكمها إلى الأراضي المقدسة وبنت الكثير من الكنائس والأديرة، أشهرها كنيسة القيامة التي ارتبط إنشاؤها ارتباطا وثيقا بالبئر.
تعود بداية الحكاية حسب الأب ميصائيل الأورشليمي من دير الأقباط الأرثوذكس في القدس، عندما اكتشفت الملكة هيلانة الصليب وقبر المسيح عيسى عليه السلام في المكان وقررت بناء كنيسة القيامة أو “القبر المقدس”، ولم يكن الماء متوفرا في منطقة قريبة لبناء الكنيسة في البلدة القديمة آنذاك.
كانت المنطقة عبارة عن جبل صخري، واضطر عمال الملكة للتوجه إلى واد تتجمع به مياه الأمطار في منطقة جبل الزيتون لجلب الماء منه لإتمام البناء.
هذا الحال لم يدم طويلا حسب الأب ميصائيل الذي روى للجزيرة نت ما ورد في المخطوطات القديمة؛ من أن ملاكا ظهر للملكة هيلانة وأخبرها بوجود بئر حفرها الإمبراطور الروماني هادريان لكنها طُمرت بسبب الحروب، ودلّها على مكانه فأمرت عمالها وجنودها بتنظيف الركام لاكتشاف البئر وترميمها وبدؤوا باستخدام مياه الأمطار منها في بناء كنيسة القيامة المجاورة عام 335 ميلادية.
لا يُخيل لزائر الكنيسة أن الممر الرئيسي فيها سيدخله إلى عالم روحاني أسفل الأرض، فيسلك طريقا شديد الانحدار وهو يحني ظهره، وتؤدي به السلالم الضيقة التي لا تتسع لشخصين إلى تجمع كبير لمياه الأمطار سماه البعض “بركة” وليس بئرا.
ومن يصل من السياح إلى هناك ينتبه فورا لصدى الصوت المختلف في المكان، مما يعطيه بعدا روحانيا عميق الأثر أثناء ترتيل الألحان والترانيم الروحية، حتى باتت البئر وجهة لعشاق الجوقات الموسيقية والتراتيل الدينية.
أجواء روحانية
ويتمتع المكان برطوبة عالية وأجواء لطيفة حتى في فصل الصيف، ويعود ذلك إلى الجدران القديمة السميكة التي تحيط بالمنطقة الصخرية، وإلى كون المكان مغلقا وليس به سوى فتحة دائرية في المنتصف تنزل عبرها مياه الأمطار.
استعمل الناس قديما المياه للشرب، وكان السكان يتعاونون على تنظيف البئر كل صيف لتهيئته لاستقبال أمطار الموسم المقبل، لكنهم -حسب الأب ميصائيل- توقفوا عن شرب هذه المياه قبل خمسين عاما بسبب إهمالها حتى باتت غير صالحة للشرب.
يقف السائح القبطي جمال شكري القادم من القاهرة أمام البئر مندهشا يرقب تساقط قطرات المياه من الأعلى وارتطامها بالسطح، مشكلة سيمفونية موسيقية ومكونة حلقات دائرية تضفي على المكان روعة. ويقول إنه لم ير لروحانية هذا المكان مثيلا في العالم، مفتخرا بأن الكنيسة القبطية ما زالت تحافظ على هذه الآثار من الاندثار.
أما الباحث في تاريخ القدس روبين أبو شمسية فيبين أن الجزء الأكبر من البناء أعلى بئر الملكة هيلانة يعود للفترتين الصليبية والبيزنطية، وبعد الفتح الأيوبي سلّم القائد صلاح الدين الأيوبي هذا الوقف للأقباط الأرثوذكس، وما زال بحوزتهم حتى اليوم.