يسرى عودة.. مقدسية تنتظر حرية ابنها منذ عقد ونصف

الجزيرة-أسيل جندي-القدس- 17/4/2018

منذ أسري دارت الأرض حول الشمس ست عشرة دورة، فإذا سألتموها قالت لكم ليس من اسم لهذا الزمن القصير الذي لا يرى إلا بالمجهر، وإذا سألتموني أجبتكم أنها ستة عشر عاما من عمري مرت وأنا ملتصق بساعة يدي محاولا السيطرة على كل ثانية من حياتي كي لا تتسرب من بين أصابعي كحبات الرمل، فأجد بتلك الساعة خيط الحياة مع الكون الواسع وزمنه الحقيقي“.

هذه كلمات خطها الأسير المقدسي بلال عودة في الثامن من أغسطس/آب من العام الماضي بمناسبة ذكرى اعتقاله من بلدة شعفاط شمال القدس عام 2001، بينما كان عائدا من عمله الذي استمر طوال الليل.

وتابع: “ساعة يدي تدور دون توقف لتعلن بوقت ما عودة الزمن لأصله وطبيعته، لزمن الوطن بهوائه وترابه وعشقي لرائحته التي لا تفارق ذاكرتي، ستبقى ساعة الوقت على معصمي لتكون بوصلتي، وذلك الخيط الذي يربطني بالوطن الحقيقي لتنتهي فترة من العمر لا علاقة لها بالوقت بل بالوطن“.

ويحيي الفلسطينيون في 17 أبريل/نيسان من كل عام يوم الأسير الفلسطيني، ويطلقون فعاليات تضامنية معهم.

أسر ومثابرة    
في منزل عائلته بالتلة الفرنسية، استقبلتنا يسرى عودة (68 عاما) والدة الأسير بلال التي تواظب على زيارة ابنها منذ أكثر من عقد ونصف، وبغرفة الضيوف بدأت تشير بيديها إلى كل قطعة تربطها بابنها الأسير: “هذا الأصيص من بلال أوصى أصدقاءه المحررين بجلبه لي بمناسبة يوم الأم، وتلك الباقة وصلتني منه مؤخرا وبدأت ورودها تذبل، لكنني لن أستغني عنها سأجففها وأحتفظ بها“.

كانت في بداية الحديث هادئة وإجاباتها قصيرة ومتقطعة، لكنها تحمست عندما بدأت الحديث عن تفاصيل اللقاءات الشحيحة مع ابنها، وعن مثابرته لإكمال دراساته العليا في السجون، حيث اعتقلته قوات الاحتلال بعد أسبوعين من إنهاء دراسته بجامعة بيت لحم في تخصص الخدمة الاجتماعية.

عادت الأم بذاكرتها إلى عام 2001، وقالت “نصبوا لبلال كمينا واعتقلوه من شعفاط، واقتحمت المخابرات منزلنا وعاثت فيه فسادا بعيد اعتقاله.. قضى في التحقيق مدة شهر ونصف، وفي أول لقاء لنا معه في المحكمة بدا هزيلا لكن معنوياته عالية، نطقت عليه الحكم قاضية ظالمة بالسجن 18 عاما“.

تصف الأم الحكم بالجائر وتقول إن تهمة ابنها أنه فلسطيني يدافع عن وطنه، مشيرة إلى أن هذه هي تجربة الاعتقال الثانية لبلال الذي قضى عاما في السجون عندما كان في السابعة عشرة من عمره.

اعتقالات متكررة       
بلال ليس وحيدا في الأسر، بل خاض غمار تجربة الاعتقال والتحقيق عدة مرات، وعما صنعت منها هذه التجارب قالت أمه “جعلتني امرأة قوية وأعرف أن تحرير فلسطين له ثمن باهظ، ويجب أن نضحي جميعا لأنها تستحق.. لا شيء أغلى من الابن إلا الوطن، وأنا أقدم أبنائي للوطن فقط“.

الرملة وعسقلان وبئر السبع ونفحة وهشارون وجلبوع ومجدو والنقب، سجون تنقل فيها الأسير بلال عودة حتى الآن، ودخلها وهو يبلغ من العمر 22 عاما وسيتحرر صيف العام القادم وهو ابن 41 عاما.

برد الشتاء القارس وحرارة الصيف الشديدة لم يثنيا المقدسية يسرى يوما عن التوجه إلى السجون لزيارة ابنها، وهنا أوجزت ألم الزيارة ببضع كلمات: “نستيقظ أنا ووالده في تمام الرابعة فجرا وننطلق الساعة الخامسة باتجاه سجن النقب حيث يقبع حاليا، وتستغرق الزيارة نحو 14 ساعة، نقضيها في الطريق والتفتيش الاستفزازي والانتظار لنرى ابننا لمدة 45 دقيقة من خلف الزجاج ونتكلم معه عبر الهاتف“.

ورغم لهفتها في يوم الزيارة لرؤية ابنها، فإنها لم تتنازل يوما لشرطية احتلالية حاولت استفزازها بالتفتيش المهين، وقالت للسجانين بصوت مرتفع في أحد الزيارات “لن أزور ابني يوما على حساب كرامتي.. أنا وبلال نرفض ذلك“.

هتافات الحرية 
صلابتها في الزيارات ومثابرتها في المشاركة بكافة الاعتصامات الخاصة بالأسرى داخل المدينة المحتلة وخارجها، كان لها دور في تعزيز إرادة ابنها وصبره. كتب لها ذات يوم “أكتب إلى أكثر الناس عطاء وصبرا، لأمي المناضلة الجميلة.. لأمي التي تعبت قدماها من الوقوف أمام مقرات الصليب الأحمر الدولي لترفع صوتها عاليا وتقول: لا لكل الانتهاكات التي نتعرض لها خلف القيد“.

طال حديثها للجزيرة نت عن ابنها وتخلل ذلك دخول زوجها المسن وخروجه مرارا من الغرفة، وهو يصحح بعض التواريخ والأحداث التي ازدحمت في ذاكرة زوجته، وعندما جاء دوره للحديث قال محمد عودة (80 عاما) إن الاحتلال سرق فرحته بابنه الأصغر المدلل الذي تزوج أشقاؤه الثلاثة وهو يقبع خلف القضبان. وقد ورزق محمد وزوجته 14 حفيدا، لم يعرف بلال أيا منهم بسبب منعهم من زيارته.

وعن أمنيته في يوم الأسير الفلسطيني، قال المسن عودة: حلمي أن يكون بلال في حضني خلال 24 ساعة.. لم أعلق آمالي يوما على صفقة تبادل للأسرى، وأنا على يقين أنه في حال خُيِّر بلال بين أن يتحرر هو أو أسير آخر محكوم بالمؤبد فسيفضل الآخر على نفسه.. هكذا يتكاتف أسرانا خلف القضبان“.